السعودية: هاجس تعددية الفتاوى
بقلم الدكتورة مضاوي الرشيد
مقال نشر في القدس العربي بتاريخ 23-08-2010
السعودية: هاجس تعددية الفتاوى
بعد ان صدر امر ملكي يقضي بحصر الفتاوى المتعلقة بالشأن العام في هيئة كبار
العلماء ومن تختاره هذه الهيئة في السعودية اعتقد البعض ان هذا الامر سيقضي
على ما سمي 'فوضى الفتاوى' وسوقها المنتشر، خاصة على شاشات الفضائيات
والمواقع الالكترونية.
ولم يتساءل احد عن مغزى الامر الملكي والذي يعيش هاجس هذه التعددية خاصة وان بعض الفتاوى التي صدرت حديثا تشكك في امور تطال المجتمع ومسيرة الدولة ورؤيتها. لا يخاف النظام السعودي اختلاف وتعدد الفتاوى المتعلقة بالامور الشخصية والعبادات فهو لا يأبه بسجالات دينية حول كشف وجه المرأة او تغطيته ولا يهمه ان ارضعت نساء السعودية الكبار او الصغار ولا يؤرقه اختلاف الرأي الديني حول شرعية قرض لتأدية فريضة الحج ولا اهمية دخول المرحاض بالقدم اليمنى او اليسرى ولكن ما يهمه تلك الفتاوى التي تعرض رأيا مؤصلا قد يخالف ما تتبناه الدولة في سياستها المحلية والخارجية. وبما ان النظام السعودي لا يزال يصر على الاصول الدينية للدولة لذلك يحرص على ان تنحصر الفتاوى في هيئة رسمية تنتقي الدولة اعضاءها حسبما تراه مناسبا ولها الحق ان تعين وتعزل من تشاء دون محاسب او رقيب او تبرير لسياستها الادارية تماما كما يحصل في بيروقراطيات النظام. ويدخل النظام السعودي في دوامة التناقضات حين يتبنى سياسة الحوار واحترام الرأي الآخر والتعجيل في مسيرة التعددية الفكرية اذ انه يحصر التعددية في الامور التي لا تطال نظرته وسياسته من جهة ويقمع كل رأي فكري ثقافي كان او دينيا يخالف توجهه.
لقد ظهرت هذه التناقضات في كثير من المواقف. خذ مثلا موضوع الاختلاط والذي اطاح بأحد اعضاء هيئة كبار العلماء لانه تطرق الى سياسة ملكية جديدة غير قابلة للجدل او النقاش بينما لا يأبه النظام بأصحاب فتوى ارضاع الكبير وغيرهم الذين يتطوعون بفتواهم بين الحين والآخر. لقد أفرز النظام السعودي تناقضات تطال المجتمع وتخل بأمنه الفكري واستقراره حيث اصبحت الدولة وليس هيئة كبار العلماء هي المفتي الاكبر الذي ربما يتحول الى شيخ الاسلام وهذا ما جعل بعض اطياف المجتمع يبحث عن مصادر اخرى وآراء تختلف عن دولة الافتاء. ونعتقد ان التعددية الحاصلة في السعودية وغيرها من الدول في مجال الفتوى ما هي الا انعكاس طبيعي لمأسسة الاسلام تحت مظلة الدولة المركزية. حينما تنعدم المصادر المستقلة لتلقي العلم الديني وممارسة الطقوس والشعائر وتتصدر الدولة مشروع سيطرة تامة على المجال الديني والروحي والطقوسي عندها تظهر بوادر التشظي والتعددية وهذا امر طبيعي وردة فعل اجتماعية على عملية احتكار الدين وروافده الفكرية فيتطلع المجتمع الى مصادر اخرى يستقي منها رأيا شرعيا وكلما ازداد حصر الدين في مؤسسات واعضاء وهيئات ومجامع شرعية ازداد التوق الى مصادر خارج هذه الاطارات صاحبة الآراء النمطية والتي في مجملها تصب في مشروع واحد وهو اضفاء الصبغة الدينية على قرارات واستراتيجيات سياسية بحتة. وبما ان النظام السعودي قد فشل حتى هذه اللحظة في ايجاد شرعية ورؤية جديدة للحكم سيظل يتعلق بهيئة كبار العلماء وارائها ويحارب اي رأي آخر يتعارض مع فتاواها خاصة تلك التي تتعلق بالشأن العام المسؤول هو عنه. لقد قلص النظام السعودي هيبة هذه الهيئة وقلم اظافرها طيلة عقود سابقة حتى اصبحت خارج الزمان رغم انها داخل المكان لكنه حتى هذه اللحظة يظل متعلقا بها مستنجدا بفتاواها كلما اراد سبغة شرعية لسياسة مسبقة. ويعتمد النظام والهيئة بعضهم على بعض. اذ ان وجود الاول مقترن بالثاني ومعتمد عليه ولو بصورة شكلية هزيلة كما هي الحال منذ فترة طويلة.
ان كان هناك ما يسمى بفوضى الفتاوى فان اسبابها معروفة منها اولا: مأسسة الدين وخضوعه لسلطة الدولة. ورغم ان المعادلة في بلد يدعي انه يتمتع بجذور دينية تتطلب ان تخضع الدولة للدين الا ان النظام السعودي قلب هذه المعادلة واخضع الدين لسلطته. سيطرة الدولة على المجال الديني وانعدام الاستقلالية الاقتصادية والفكرية والاجتماعية للمؤسسات الدينية يدفعان بشدة الى البحث عن منافذ اخرى يستقي منها المجتمع الرأي الديني. ثانيا: انتشار التعليم الديني وكثرة المختصين في التعاطي مع الامور المتعلقة بالشرع تدفع باتجاه تعددية فكرية وتفسيرات قد تختلف او تتفق على امر ما، لقد ولى عصر امام المسجد او فقيه الحي الذي كان المرجع الاول والاخير في المسائل الدينية وله مساحة يحتكرها دون منافس حيث ان المجتمعات السابقة لم يكن لديها التعليم الكافي والقدرة على الوصول الى النصوص الدينية مباشرة فتلجأ الى ذلك الوسيط الوحيد المتوفر. اما اليوم وبفضل التعليم بشكل عام وتوفر المصادر الدينية والمراجع ليس فقط في المنشورات المطبوعة بل حتى الالكترونية نجد ان عمليات الحجر على الفتوى تتعثر امام هذا الزخم الكبير من المعلومات والآراء والمصادر. ولن يحد الامر الملكي السعودي من الاتجاه نحو مصادر تختلف بتفسيراتها وآرائها وفتاواها عن هيئته المعينة الخاضعة لسلطته. ان انتشار التعليم بشكل عام والديني بشكل خاص فتح باب المنافسة على مصراعيه حيث نجد ان الشيوخ وعلماء الدين دخلوا في منافسة حادة فيما بينهم خاصة وان المجال الديني لا يزال مفتوحا كمجال للترقي وكسب الشهرة والجمهور وحتى الثروة الطائلة بعد انسداد المجال السياسي كما هو الحال في بلد كالسعودية وحصر المجال الاقتصادي على فئة معينة تستفيد منه حاليا. وسيلجأ الكثيرون من هؤلاء الطامحين الى اصدار الفتاوى والآراء التي تبهر الجمهور خاصة وان كانت تحظى ببريق اعلامي وردود فعل جدلية تجعلهم محط الانظار والاضواء لفترات زمنية طويلة. ولقد بدأ بعض هؤلاء يقيس نجاحه ليس بمقياس العلم الشرعي بل بمقياس الجمهور في عصر الفضائيات ولن يتوقف هؤلاء عن اصدار الفتاوى فجأة لمجرد سماعهم بالامر الملكي الجديد.
ينسى النظام السعودي ان دولا عربية قد سبقته في مشروع تقنين الفتاوى ومأسسة الدين وقد فشلت هذه المشاريع في الحد من التعددية وتوجه المجتمعات الى البحث عن آراء دينية مختلفة عن تلك التي تصدر من الجهات الرسمية وليس من المعقول ان تنحسر موجة التعددية الدينية الحالية بل هي في طريقها الى الازدياد والتفشي كظاهرة لها جذورها السياسية العميقة وبعدها الاجتماعي وآلياتها الاعلامية التي تسهل تداولها في مجتمعات حتى تلك البعيدة عن بيئتها. ولكن لن يقتنع النظام السعودي ان عصر تأميم الدين وتفسيره قد ولى تحت ضغط الظروف الاجتماعية والتعليمية الحديثة والتي فتحت الباب على مصراعيه امام مجتمعات كانت في السابق مغلقة وغير قادرة على الوصول الى درجة علمية ومعرفية تمكنها من التعرف على النصوص الدينية دون وساطة. اليوم نحن بصدد معطيات جديدة تسهل اولا الوصول الى الرأي الديني مباشرة واستنباط الاحكام وثانيا تعدد الشخصيات التي تعتبر نفسها مؤهلة لان تصدر الاحكام دون الرجوع الى مؤسسات دينية تحت سلطة الدولة المباشرة. من الصعب تجاوز هذه المعطيات والعودة الى الخلف اي الى مرحلة احتكار الدين وتفسيره مهما كثرت الضغوط السياسية والتي هي بالدرجة الاولى معنية بقمع الفكر الذي يخالف توجهها خاصة وان كان هذا الفكر دينيا اذ ان له صفة مقدسة تجعله ينافس آلتها الاعلامية التي تروج لسياسة معينة. جاء الامر الملكي كعاصفة استبشر بها البعض وتوجس منها البعض الآخر الا انه ردة فعل حتمية من قبل نظام يظل قلقا من اي رأي مؤصل شرعيا ينتقص او يشكك في حنكة النظام وسياسته الاجتماعية الشاملة. وان كان النظام قد نجح في قمع الانتقادات لسياسته وخاصة تلك المتعلقة بالاصلاح السياسي الا ان معركته مع تعددية الفتوى قد تطول خاصة وانه امام حشد كبير من المؤهلين لاصدارها نتيجة سياسة تعليمية عمرها اكثر من نصف قرن. وهو امام مجتمع بدأ يبحث عن الرأي الآخر في حقبة زمنية من اهم ملامحها توفر وسائل نقل هذا الرأي والترويج له. لن يستطيع النظام السعودي في المستقبل القريب مهما تكاثرت الاوامر والمراسيم الملكية ان يحد من تعددية توصف زورا على انها فوضى ومن اهم مبادئ التعددية هو القبول بنتائجها مهما كانت تخالف الرأي الرسمي وربما ان التعددية نعمة وفرتها ظروف حديثة انتشلت المجتمع السعودي من الرتابة والملل المرتبط بالرأي الواحد. ومهما استعرضت هيئة النظام فتاواها على القنوات الرسمية فما اسهل ان يتجاوزها المجتمع ويلتفت الى سوق اكبر للافكار والآراء والاحكام اصبح اليوم متوفرا بسهولة فذة.
لقد بدأت مرحلة جديدة هي مرحلة ما بعد مأسسة الدين وتأميمه من قبل انظمة شمولية تدعي القبول بالرأي والرأي الآخر ولكنها تمارس احادية واضحة وصريحة.
' كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
ونحن نقدم القروض لجميع المحتاجين في معدل فائدة منخفض جدا 3٪ أي ضمانات تضمن أننا سوف
ردحذفأن تكون قادرة على إعطائك أي مبلغ يتراوح بين 2،000- $ $ 5،000،000.00 سعر الفائدة قابل للتداول، مع سداد يسمح 1-40 سنوات اذا كانت مهتمة الاتصال بنا الآن
رقم الهاتف: + 91-7418483326
ما سوب: + 91-7418483326
البريد الإلكتروني: lendingplc@gmail.com