مرحبا بزوار التقدمية

مرحبا بالزوار الكرام لمدونة التقدمية. هذه المدونة تتبع صحيفة التقدمية الأصلية وهذا موقعها http://www.taqadoumiya.net/. تعرضت للضرب والحذف فجر يوم 3 سبتمبر وتم استعادتها في آخر يوم 4 سبتمبر بعد الاتصال بشركة غوغل... قد تضرب في أية لحظة مرة أخرى فالرجاء من القراء المهتمين بالمقالات تسجيلها أو طبعها أو البحث عنها عبر غوغل في مواقع أخرى...

الخميس، 25 نوفمبر 2010

قصة ياسر عرفات أسد الجبارين


قصة ياسر عرفات أسد الجبارين: رفض مشاريعهم فاغتالوه بالسم

الفرنسيون أحبوه والأمريكيون جافوه والعرب اختلفوا حوله

بقلم رياض الصيداوي
 مدير مركز الوطن العربي للابحاث والنشر
ورئيس تحرير التقدمية


انشغلت منذ بضعة أشهر بالبحث والتنقيب في شخصية الزعيم الراحل ياسر عرفات بغاية تأليف كتاب حوله. استهوتني هذه الشخصية التي أصبحت رمزا للقضية الفلسطينية. فأبو عمار أكثر من قائد يقود الرجال في المعركة لأنه ببساطة فاق الدور الذي رسمه لنفسه ليتحول إلى رمز لآلام شعبه ورمز لتطلعاته إلى الحرية والاستقلال. واعترف أن ياسر عرفات لم يكن يستهويني كثيرا في الماضي حيث كانت شخصية جورج حبش أقرب إلى قلبي وفكري. وأذكر أنني التقيت ب"الحكيم" في تونس وأجريت معه حوارا لصحيفة "العرب" اللندنية في بداية سنة 1991، أي قبل قصف بغداد من قبل قوات التحالف ببضعة أسابيع. ومازلت احتفظ بالتسجيل للتاريخ. وأذكر أن حبش قال لي بالحرف الواحد نحن الآن مع أبي عمار في خندق واحد. ومن المفيد التذكير بأن الرجل نافس عرفات طويلا على قيادة الثورة الفلسطينية، وكان تنافسهما شريفا ومبدئيا. وسوف يذكر التاريخ للحكيم كيف حذر أبو عمار ذات مرة من محاولة اغتيال دبرتها له دولة عربية، فأنقذه من موت محقق. وسوف يذكر التاريخ للحكيم أنه فهم المرحلة السياسية التي تخوضها الثورة الفلسطينية وأدرك معنى انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة..فوصل إلى نتيجة ضرورة ترك أبي عمار يقود السفينة وتنحى عن الطريق بصمت وشجاعة وأنهى مرحلة التنافس بشرف. لقد نشأت علاقة احترام وحب بين الطرفين منذ بداية الكفاح والتزم كل منهما خطا أحمرا لا يتجاوزه في صراعه مع الآخر. أما رفاق أبي عمار الآخرين الذين اتهموه مرة ب"الخيانة" ومرة أخرى ب"ترك الخنادق من أجل الفنادق"..وزايدوا عليه "ثوريا"، فإن صوتهم اختفى الآن كما أن بنادقهم التي رهنوها لدول عربية شقيقة لم تطلق رصاصها..وحده أبو عمار واصل الكفاح مستخدما كل الأساليب المتاحة : الكفاح المسلح تارة، والتفاوض تارة أخرى، ثم أخيرا سلاح الانتفاضة.


محترف الكاميرا
لقد رأيت ياسر عرفات لأول مرة في تونس في فندق "أميلكار" في بداية التسعينات. وأذكر أني حضرت الندوة الصحفية التي أقامها مع وزيرة الخارجية آنئذ مادلين أولبرايت في مقر السفارة الأمريكية في جنيف منذ بضعة سنين خلت. وشد انتباهي الحشد الهائل من الصحافيين والإعلاميين الذين حضروها. فأبو عمار "محترف" أمام كاميرات التلفزيون وعدسات المصورين. والمرة الأخيرة التي رأيته فيها كانت في منتجع "دافوس" السياحي في سويسرا أثناء مؤتمر دافوس العالمي سنة 2000. وكنت أغطي المؤتمر لتلفزيون عربي. وأذكر أن كاميرات صحافيي ومصوري العالم جميعا قد تركت رؤساء الدول ورؤساء الحكومات ورؤساء الشركات الكبرى لترابط أمام الفندق الصغير الذي وصل إليه عرفات.
وأقر أن كتبا كثيرة كتبت عن عرفات، حيث تميزت الكتب الأمريكية ببعض الجفاء تجاهه في حين عامله الكتاب الفرنسيون بتعاطف كبير وإعجاب واضح وانقسم الكتاب العرب الذين تناولوه بين هجاء ومدح حسب مصالح دولهم! 

قدر مع الحياة
ولأبي عمار قصة أخرى مع ثنائية الموت والحياة ، فالرجل شارف الموت مرات كثيرة في حياته ولكنه ينجو كل مرة منها بقدر ومعجزة إلهيين. فلا محاولات الاغتيال تمكنت منه رغم أنها حصدت أرواح رفاقه المخلصين من أبي جهاد إلى أبي أياد، ولا حتى حادث سقوط طائرته في الصحراء الليبية مسه بسوء..رغم أنه حادث يندر النجاة منه، كل مرة يعيش بمعجزة مستجيبا لقدره في أن يحيا ويواصل مسيرة كفاحه من أجل فلسطين.
وهو اليوم محاصر من قبل دبابات شارون، مغضوب عليه أمريكيا، متجاهل من قبل أغلب الحكومات العربية..ويواجه كل ذلك بعناد وصبر كبيرين. فالرجل تعود على الحصار وخرج منه دائما سالما أكثر عزما منه من قبل. وكثيرا ما كان حصار "الأشقاء" أشد مرارة على قلبه من حصار الأعداء. والذين يراهنون على عزله وتعويضه بأحد مساعديه يعيشون وهما كبيرا لأن من يحاول أن يأخذ مكان عرفات وهو مازال حي يرزق ينتحر بنفسه أمام الشعب الفلسطيني. ونذكر جميعا منذ بضعة أيام خلت كيف غضب الزعيم على قائد جهاز الأمن الوقائي بالضفة الغربية، جبريل الرجوب، وشهر مسدسه في وجهه..وكيف عاد إليه هذا الأخير مؤديا التحية العسكرية وواضعا نفسه تحت إمرته كجندي تحت تصرف قائده. وصفح عنه أبو عمار كما صفح عن الكثيرين من قبله. 

أبو عمار المقاتل

في بداية شبابه، لم يكن ياسر عرفات يؤمن بسبيل آخر لتحرير فلسطين غير الكفاح المسلح. وقد شارك في القتال مبكرا رغم صغر سنه. أعرض الآن مشهد أول معركة مسلحة يخوضها أبو عمار.
كلف القائد المصري الذي يقود كتيبة طلبة متطوعين للقتال في فلسطين سنة 1948 طالبا فلسطينيا اسمه محمد ياسر القدوة بمهمة إطلاق قذيفة مورتر على أول مصفحة تتصدر الرتل الإسرائيلي قريبا من مدينة غزة. كان الكمين محكما وكانت مهمة الطالب الفلسطيني ستكون الأكثر حسما في نتيجة المعركة. تقدمت المصفحات وأطلق محمد ياسر القذيفة وأصابت الهدف وتوقف الرتل وتعالى الدخان الذي كان كثيفا..فسهلت مهمة المقاتلين في المعركة. كانت أول حربا مسلحة يخوضها من سيصبح اسمه فيما بعد ياسر عرفات أو ابو عمار. كان الشاب يؤمن إيمانا عميقا بأن طرد اليهود لن يتم إلا عبر القوة المسلحة.

خيبة الأمل

لكن الضابط المصري الكبير الذي جاءهم باسم تحرير فلسطين تقدم من عرفات ورفاقهم وطلب منهم تسليم أسلحتهم. علق عرفات لاحقا على الحدث قائلا "لا يمكنني أبدا أن أنسى ذلك المشهد. كنت في غزة حينما جاء ضابط مصري إلى مجموعتي وطلب منا أن نلقي بالسلاح. في البداية لم أكن أصدق ما أسمع. قلنا للضابط : لماذا ؟ فأجابنا الضابط بأن ذلك أمر من الجامعة العربية. كان احتجاجنا بلا صدى إجابي. وأعطاني الضابط وصل تسلم لبندقيتي مع وعد بإعادتها لي بعد انتهاء الحرب". انتشر الكلام عاليا لدى الفلسطينيين الذين قالوا أن عدوهم الأول بعد الإسرائيليين هم العرب أنفسهم. فقد انسحبت جيوشهم جميعا من المواقع التي احتلوها وحتى من مواقع كانت محررة من قبل بسبب قرار التقسيم. فباستثناء الجيش الأردني الذي حافظ على الجزء العربي من القدس فقد تراجع البقية..كان الجميع يهتف علنا أم همسا : خيانة ! بعد أربع سنوات فقط جاء جمال عبد الناصر إلى الحكم في مصر ليؤكد رأي الفلسطينيين في أن ما حدث كان خيانة وتحدث عبد الناصر طويلا عن الأسلحة الفاسدة وعن المرارة التي كان يشعر بها الضباط المصريون المحاصرون بسبب خيانة قيادتهم في القاهرة.

وكان الأمين العام للجامعة العربية عبد الرحمان عزام في المشهد أيضا فقد أعلنت جامعته يوم 10 يونيو / حزيران 1948 وقفا لإطلاق النار لمدة ثلاثين يوما. خرج يومها عزام باشا من مكتبه متمتما "لن يغفر لنا الشعب العربي أبدا ما فعلناه لفلسطين".
المهم، أن الشاب عرفات تأكد له أن تحرير فلسطين لن يتم إلا عن طريق الفلسطينيين أنفسهم وأن العرب، باستثناء الدعم الكلامي أو بعض الأموال، لن يقدموا لفلسطين كثيرا. وعادت به الأيام إلى طفولة بعيدة في أحد أحياء القاهرة المزدحمة.

من هو ومن أين جاء؟
الإسم الرسمي المسجل لابي عمار في دفتر الحالة المدنية هو محمد ياسر القدوة حيث تمت ولادته في مدينة القاهرة يوم السبت 29 أغسطس 1929. وهي السنة التي اشتد فيها القتال بين المقاومين العرب الفلسطينيين من جهة وقوات الاحتلال البريطاني وحلفاؤهم من اليهود من جهة أخرى. ولكن ما الذي دفع بعبد الرؤوف القدوة والد ياسر عرفات إلى الانتقال إلى مدينة القاهرة بدل العيش في فلسطين ؟ هناك إجابتان شائعتان : الأولى تقول أن رحيله كان بسبب طرد البريطانيين له ونفيه لما أبداه من أنشطة نضالية في مقاومتهم. أما الثانية، وهي الأكثر خبثا، فتقول أن السبب الحقيقي هو بيع والد عرفات لأراضيه لليهود نظرا للأسعار المغرية التي عرضوها عليه. كان الرجل ميسورا فهو تاجر معروف ولكنه اختار تأسيس مشروعا آخر في القاهرة يتمثل في مصنع للأجبان. عوائد هذا المصنع وأرباحه كانت تذهب إلى فلسطين لدعم المقاومة والعائلات الفقيرة. من المؤكد أن عبد الرؤوف القدوة كان شديد الكرم ولم يكن تاجرا جشعا لا تهمه إلا مصلحته الخاصة. وكان ترتيب عرفات السادس في عائلة تتكون من سبعة أبناء. أمه تسمى زهوة (الاسم الذي أطلقه عرفات على ابنته لاحقا)، وهي امرأة منحدرة من عائلة أبو سعود القاطنة بالقدس. وتتميز بخصال حميدة منها قوة الشخصية وحرارة التواصل مع الآخرين. أما أبيه فينتمي إلى فرع الحسيني بغزة على عكس الشيخ أمين الحسيني الذي ينتمي إلى الفرع الأقوى المتمركز في مدينة القدس. 
أبو عمار إذن قاهري المولد، نسبة إلى مدينة القاهرة، نشأ في أحيائها وأزقتها وهو ما أكسبه حب مصر مبكرا والالتجاء إليها كلما عاش موقفا صعبا يبحث فيه عن من ينجده. كما عاش طفولة غير عادية حيث استهواه النضال مبكرا وسرق منه كل سنوات عمره : الطفولة والمراهقة والشباب والكهولة ولم يتفطن لضرورة الزواج إلا وهو شيخ تجاوز الستين.
لما كان محاصرا من قبل دبابات شارون حيث لا توجد إلا مسافة بضعة أمتار بينه وبين فوهة أول مدفع موجه نحوه، لم تفت أبو عمار فرصة وضع مسدسه فوق الطاولة جنبا إلى جنب مع هاتفه النقال. فالأول هو البندقية التي هدد بها لما ألقى كلمته لأول مرة على منبر الأمم المتحدة في نيويورك. والثاني، أي الهاتف النقال هو غصن الزيتون الذي لوح به ذات يوم على نفس المنبر، ووظيفته هي العمل الدبلوماسي والاتصالات السياسية. تلك هي ثنائية الكفاح والتفاوض عند ياسر عرفات التي لازمته منذ تأسيس حركة "فتح" إلى يومنا هذا. فالكفاح السياسي بدون سياسة ودبلوماسية وأهداف واضحة هو انتحار. وكذلك السياسة بدون قتال ونضال هي ترف لن يحرر فلسطين ولا أي شبر منها. ربما لأجل هذه الثنائية اتهم أبو عمار تارة ب"الإرهابي" من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني وتارة أخرى ب"الانهزامي" و"المسالم" ورجل "الفنادق بدل الخنادق" من قبل بعض التنظيمات الفلسطينية الصغيرة أو من قبل بعض الأنظمة العربية المدعية لثورية خطابية سرعان ما تختفي عن ساحة الفعل حينما يحين الجد، حيث تلتجئ بسرعة إلى تهدئة الوضع والتفاوض مع إسرائيل سرا. أبو عمار أدرك منذ سنة 1948 كل هذه المناورات وعرف الفرق بين الخطاب والممارسة. وفهم أن تحرير فلسطين لن يتم بالخطب ولا بالمزايدات الثورية الشعارتية الخالية من أي برنامج حقيقي للتحرير. 
هذا الشبل من ذاك الأسد. ينطبق هذا المثل على كتائب شهداء الأقصى. هذا التنظيم السري المحكم الذي أثار الخوف والبلبلة في نفوس الإسرائيليين بعملياته الجريئة وشجاعة مناضليه وقادته..لم يأت من فراغ. لقد خرج من أحضان التنظيم الأم أي حركة "فتح". ول"فتح" قصة مع التاريخ في الكفاح المسلح أولا وفي الدبلوماسية ثانيا. وكلمة "فتح" هي اختصار لاسم التنظيم : حركة التحرير الفلسطيني. وقد اضطر الفلسطينيون لاختصار الاسم بالمقلوب فعوض أن تكون "حتف" (وهو ما يعني الموت في اللغة العربية) فقد استعملت كلمة "فتح" لما لهذا التعبير من دلالة ومغزى لدى العرب والمسلمين.

الرحيل إلى الكويت

من الممكن القول أن قدر حركة "فتح" ارتبط بقدر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات نفسه. وحينما نتحدث عن الصدف وتعدد الاختيارات لدى البشر..فإن التاريخ كثيرا ما يكون غير عقلاني. فتأسيس حركة "فتح" ارتبط بسلسلة أحداث مترابطة تارة ومتقطعة متنافرة تارة أخرى. ولعل بداية الخيط كانت بعد زيارة المناضل الشاب عرفات إلى العراق والتقاؤه بالضباط الأحرار العراقيين وعلى رأسهم عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، الذين كانوا بصدد إعداد ثورة للإطاحة بالملكية العراقية وبنوري السعيد وتباحثه معهم في أمر فلسطين والعراق وشؤون العرب عامة. فعند عودته إلى القاهرة، استدعته المخابرات المصرية وحققت معه كما ضيقت عليه أجهزة الأمن المصرية الحصار ورصدت حركاته وسكناته بالإضافة إلى طرده من عمله في مصر. ووصل الشاب المتحمس إلى ضرورة الخروج من مصر والاتجاه إلى دول الخليج حيث قبل أول عرض عمل جاءه من الكويت. وقبل ذلك سبقه صديقه خليل الوزير بأن وقع عقد عمل كمدرس في المملكة العربية السعودية والذي سرعان ما غير وجهته هو أيضا ملتحقا بصديقه في الكويت. 

الابتعاد عن دول المواجهة

هذا الانتقال المكاني في تاريخ الشاب الثوري عرفات شكل منعرجا حاسما في تاريخه الشخصي بشكل خاص وفي تاريخ الثورة الفلسطينية بشكل عام. فمصر دولة مواجهة مع إسرائيل وهي مرتبطة معها باتفاقية هدنة عسكرية ويوجد وقف حقيقي لإطلاق النار بين الدولتين. ومن ثمة لن تسمح دولة مصر لأي نشطاء فلسطينيين بالعمل من خلال الأراضي المصرية. وهي قاعدة ستتكرر دوما مع كل الدول العربية المواجهة. فسوريا لم تسمح للمقاومة الفلسطينية بالانطلاق من ترابها لأنها غير مستعدة لتلقي ضربات الانتقام الصهيونية. وكذلك الأمر بالنسبة لدولة الأردن الذى وصل فيها الوضع مع الفلسطينيين إلى حد التقاتل في أيلول 1970 وحدوث مجزرة رهيبة في حقهم. وحتى لبنان لم يعد يسمح بأن تكون أراضيه قاعدة انطلاق الكفاح الفلسطيني المسلح منذ خروج أبو عمار من بيروت سنة 1982 على اثر الاجتياح الإسرائيلي.
أدرك أبو عمار مبكرا أن دولة عربية بعيدة غير مواجهة مباشرة لإسرائيل هي أفضل بكثير للفلسطينيين من دول المواجهة. فهي ستعطيهم الوقت الكافي للتنظيم دون الخوف من التدخل الاستخباراتي للدولة العربية المضيفة من جهة أو الخوف من عمليات الانتقام العسكرية للكيان الصهيوني من جهة أخرى. لهذه الأسباب مجتمعة شكلت الكويت قاعدة جيدة لانطلاق المقاومة. كما استعاد أبو عمار لاحقا هذا الاختيار عندما اختار الانتقال إلى تونس بدل دولة عربية من دول المواجهة عندما أخرج من بيروت، آخر معاقله القوية على أرض عربية متاخمة لإسرائيل.

المال والثورة

في الكويت، اشتغل عرفات لبعض الوقت في وزارة الأشغال العامة، حيث غادرها ليؤسس شركة خاصة به. نجحت الشركة وحققت أرباحا كثيرة. لقد انتبه أبو عمار مبكرا لأهمية المال في النضال السياسي والعمل الدعائي. وخلفيته العائلية كابن تاجر ناجح جعلته لا يجد حرجا أبدا في إدارة أعماله واستثمار أمواله، التي أصبحت أموال الثورة الفلسطينية، بشكل محترف وذكي جنبا إلى جنب مع قيادة الكفاح المسلح والعمل الدبلوماسي. وهي من النقاط التي حاول منافسوه اليساريون في الثورة الفلسطينية التركيز عليها لإضعافه أمام الرأي العام الفلسطيني والعربي. لكن أبو عمار قلب المعادلة ونجح بهذه الأموال في تأسيس مؤسسات الثورة الفلسطينية التي أثبتت نجاعتها وكانت نواة حقيقية لأي دولة فلسطينية قادمة. وحقيقة تبدو شخصية أبو عمار المثيرة لكثير من التساؤلات محل حيرة لبعض المتتبعين لمسيرته. فالرجل يبدو في بعض الأحيان وكأنه رجل أعمال كبير وناجح. وتقول بعض التقارير المنشورة أن أمواله طائلة، وأن استثماراته في جميع أرجاء العالم كبيرة وبخاصة في أروبا. هذه النقطة الحساسة أثارت انتباه جهاز المخابرات الصهيوني "الموساد" الذي أراد استغلالها لتحطيم صورة ياسر عرفات لدى الرأي العام الفلسطيني والعربي والعالمي. يعترف عميل الموساد الإسرائيلي فيكتور أوستروفسكي في كتابه (الموساد : عميل الأجهزة السرية الإسرائيلية يتحدث) الذي أثار ضجة كبيرة عند صدوره باللغة الإنجليزية في أمريكا سنة 1990، بمحاولة الموساد تشويه ياسر عرفات فيقول (صفحة 232، الطبعة الفرنسية) "لقد استخدم الموساد ضد بعض القادة العرب تهمة العيش الرغيد والمرفه الذي يعيشونه منتفعين من النظام القائم. غير أن الأمر مع ياسر عرفات يختلف، فهو دائم الالتصاق بشعبه يعيش معه بكل تواضع. وعند حصار بيروت، كان بإمكانه أكثر من مرة الهرب والنفاذ بجلده لكنه لا يفعل ذلك إلا بعد أن يبعد الفلسطينيين الآخرين عن الخطر. فالموساد لا يستطيع إذن اتهامه بكونه لا يفكر إلا في مصالحه الخاصة". هذه الشهادة الموثقة، يعترف فيها الموساد بعجزه التام عن تشويه صورة الزعيم الفلسطيني. 

تأسيس "فتح"
وفي الكويت أيضا، نشط الشاب عرفات مع خليل الوزير في تجميع الفلسطينيين والربط بينهم، وكانت السلطات الكويتية تغض النظر على أنشطتهم رغم كونها مازلت تحت الاحتلال البريطاني. كما وصلت هذه النواة الأولى إلى نتيجة ستكون محددة لمسار الثورة الفلسطينية وهي أن لا حل بدون كفاح مسلح. ومن ثمة يجب إذن تركيز كل الجهد على تنظيم المقاومة العسكرية حيث حددت أهدافها الإستراتيجية : أولا تذكير العالم بمأساة فلسطين وأن هناك أرضا اغتصبت بدون وجه حق وشعبا تم تشريده ظلما في الخارج أو تم اضطهاده قهرا في الداخل. ثانيا، تأكيد هوية فلسطينية مستقلة عن غيرها من الهويات العربية والإسلامية. ثالثا، حق هذا الشعب في وطن ودولة خاصة به. والغريب في الأمر أن عرفات ورفاقه كانوا يمثلون أقلية في هذا المشهد. فأغلب الفلسطينيين سلموا أمرهم لحركة القومية العربية الصاعدة في ذلك الوقت بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. حيث كانت الآمال معقودة عليها في تحرير فلسطين وتوحيد الأمة العربية. ولم ير أغلب الفلسطينيون ضرورة لتشكيل تنظيم مستقل عن هذه الحركة أو مواز لها. وحقيقة، وكلت أغلب الجماهير الفلسطينية والعربية في هذه المرحلة مسؤولية تحرير فلسطين إلى عبد الناصر.

تأسيس الخلية الأولى
وذات مساء، وفي منزل الشاب المناضل ياسر عرفات اجتمع خمسة شبان وقرروا تأسيس الخلية الأولى لحركة "فتح" التي اعتمدت السرية أسلوبا والكفاح المسلح منهجا وتحرير فلسطين غاية. لم يكن جميعهم مستعدا نفسيا ولا جسديا لتحمل هذا العبء الثقيل. فليسوا جميعا أبا عمار. ففي اليوم الموالي قدم عضو استقالته لعدم قدرته على تحمل ضغوط الحياة الجديدة. أما العضوان الآخران فقد استقالا بعد بضعة سنين. واحد منهم يعمل اليوم كأستاذ رياضيات في الكويت والثاني يمتلك محلا تجاريا في نفس البلد. لم تحافظ خلية "فتح" الأولى إلا على اثنين فقط من أعضائها وهما ياسر عرفات ورفيق دربه خليل الوزير.

صحيفة "فلسطيننا"

اعتقد عرفات مبكرا، وكان اعتقاده صحيحا، في ضرورة إسماع صوت فلسطين إلى العرب ثم العالم عبر الصحافة. إن كل حركات التحرر الكبرى في العالم وكذلك الثورات بدأت دائما بصحيفة وبمجموعة مقالات متحمسة. فالصحيفة مثلت دوما نقطة الانطلاق لاندلاع ثورة. وهو ما فعله الشاب عرفات حينما وظف أرباحه التى حصل عليها من مشروعه التجاري في إنشاء جريدة سماها "فلسطيننا". وصدر العدد الأول في شهر فبراير 1959. وكانت افتتاحياتها تمضى باسم "فتح" واعتقد بعض القراء أن هذا الاسم هو اسم رجل يشغل منصب رئيس تحرير الصحيفة أو مديرها. فكان بعضهم يبعث برسائله "إلى السيد المحترم فتح...". وكانت الصحيفة تطبع في بيروت، لكنها تحرر في الكويت، حيث انشغل عرفات بكتابة المقالات أو جمعها في حين انشغل خليل الوزير بتجميع الصور. وركزت "فلسطيننا" توزيعها على المخيمات الفلسطينية في سوريا. وكانت الصحيفة مصدر خطر لمن يوزعها أو لمن يقرؤها. وكان خليل الوزير يخاطر بحياته نفسها كل مرة يعبر الحدود اللبنانية السورية بسيارة مليئة بنسخ "فلسطيننا". سيستفيد أبو عمار لاحقا وباستمرار من هذه التجربة، حيث سيركز على الدعاية الإعلامية للقضية الفلسطينية بشكل عام وعلى موهبته الفذة بشكل خاص في الوقوف أمام عدسات الكاميرات العالمية. سيصبح الإعلام عنده سلاح فعال لا يقل أهمية عن سلاح المقاتلين إن لم يفوقه في بعض الأحيان. 

نجاح التجربة
لقد نجحت التجربة وجاءت ثمارها بسرعة. فقد اعتقدت مجموعات شباب فلسطينية كثيرة أن حركة "فتح" هي تنظيم قوي بعدد رجاله وبميزانيته الكبيرة وهو ما يفسر حسب رأيهم قدرته على إصدار منتظم لصحيفة وتوزيعها بشكل جيد. وبدأت هذه المجموعات في الاتصال بعرفات وخليل الوزير حتى تلعب دورها في عملية الكفاح من أجل تحرير فلسطين. وقد توصلت عبقرية خليل الوزير إلى ضرورة تنظيم هؤلاء الشباب بأسلوب غير كلاسيكي هرمي وإنما عبر خلايا صغيرة مستقلة الواحدة عن الأخرى وكل خلية مسئولة على تدبير حالها من ناحية التمويل أو انتداب مزيد من المناضلين..كل ذلك تفاديا لأجهزة المخابرات العربية التي انتبهت مبكرا للنشاط الفلسطيني محاولة اختراقه أو تعطيله أو احتوائه. هذا الأسلوب التنظيمي اتبعته "فتح" إلى يومنا هذا وقد أثبت نجاعته أثناء الانتفاضتين الأولى والثانية. 
ولمزيد من السرية التي يجب أن تحيط بقادة ومناضلي "فتح" تم استخدام الألقاب العربية التقليدية التي يسمى الرجل فيها باسم ولده البكر. فخليل الوزير أصبح معروفا باسم أبو جهاد، وصلاح خلف اشتهر باسم أبو إياد، وخالد الحسن أصبح أبو سعيد وفاروق القدومي صار أبو اللطف..أما عرفات الذي قال أنه تزوج فلسطين فقد اختار اسم أبو عمار تيمنا بعمار الرجل الذي ناصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو ضعيفا وتحمل في سبيل نصرته الأهوال والعذاب الكثير..

صراعات "فتح الداخلية"
حركة "فتح" ليست نشازا بين التنظيمات العربية أو حتى العالمية المختلفة حينما يتعلق الأمر بالصراعات الداخلية. فقد اخترقت "فتح" تيارات وأجنحة وحدثت فيها انشقاقات واندلعت فيها معارك تجاوزت في بعض الأحيان مجرد الصراخ بصوت عال إلى استخدام السلاح وحتى المدافع بين رفاق الدرب الواحد. وكان على أبي عمار دائما أن يخرج من هذه المعارك إما منتصرا أو منسحبا بأقل ما يمكن من الخسائر.
فهذا التنظيم الصغير الذي ضم في يومه الأول خمسة مناضلين أصبح بعد سنوات يضم عشرات الآلاف. وكان لا بد لحركة "فتح" أن تواكب هذا التغيير وأن تصبح تنظيما مؤسساتيا وديمقراطيا يمكنه الاستجابة لتحديات جديدة أكثر طموحا ولتعقيدات كبيرة شهدتها الساحة العربية في سنوات الستين. ولكي يتم ذلك تم تأسيس "اللجنة المركزية" التي عقدت مؤتمرها في شهر فبراير 1963. وقد برز منذ بداية الأشغال تيار جديد داخلها شكله الوافدون الجدد. هؤلاء الوافدون الجدد جاؤوا خاصة من الكويت ويتميزون بمستوى تعليمهم الجيد إضافة إلى ترفهم المادي وكان ممثلهم الأول رجل اسمه خالد الحسن. 
ولد خالد الحسن في مدينة حيفا سنة 1928، سنة تأسيس الإخوان المسلمين لحركتهم في مدينة الإسماعيلية في مصر. وهو ابن لقاض شرعي محترم. وقد هرب سنة 1928 إلى إفريقيا بمساعدة البريطانيين وذلك على إثر احتلال اليهود للمدينة. وقد انتقل فيما بعد إلى المشرق العربي محاولا تنظيم المقاومة الفلسطينية في سينا في مصر أو في دمشق عاصمة سوريا. لكن الأمر انتهى به إلى الكويت حيث وجد المال وكثير من الكوادر الفلسطينية التي سبقته إلى هناك. وقد حاول تأسيس حزب سياسي فلسطيني لكنه التقى بعرفات فتغيرت برامجه وانضم إلى حركة "فتح".

انقسام داخل القيادة المركزية
أصبحت القيادة المركزية موزعة الآن على عشرة أعضاء بمن فيهم ياسر عرفات صاحب الشخصية القوية ذات الإشعاع الكاريزمي. ولكن خالد الحسن يريد الحد من نفوذ هذه الشخصية ملتجئا إلى شعار وجوب الديموقراطية داخل التنظيم. ولكن أخطر شيء في أطروحة هذا التيار الجديد الذي يقوده خالد الحسن هو معاداته للكفاح المسلح واختياره فقط للعمل السياسي. ودافع الرجل عن رأيه هذا لاحقا "كنا نعتقد أن الوقت لم يحن بعد لاندلاع العمل العسكري. حيث ساد الاعتقاد أن استفزاز إسرائيل سيولد رد فعلها العنيف. والأنظمة العربية لم تكن مستعدة للحرب. فكنا سنقع حتما بين المطرقة والسندان..وكان رأينا أن نمر أولا بمرحلة توسع سياسي، وهذا يعني تنسيق حركتنا مع بقية العرب". 

رأي عرفات
أما عرفات فكان رأيه معاكسا تماما. يجب القتال حتى تثبت الهوية الفلسطينية محليا وعربيا ودوليا من جهة وحتى تثار عزيمة العرب من جهة أخرى. فلا يجب ترك الأنظمة العربية غارقة في وضعية لا سلم ولا حرب مع إسرائيل..لكن الرجل وجد نفسه ممثلا للأقلية داخل اللجنة المركزية. ووجد أن القيادة الجماعية ل"فتح" ستكون عبئا عليها وليست سندا لها. فكان عليه أن يناور يمينا ويسارا مع رفيقه المخلص أبي جهاد حتى يتمكن من تحقيق غايته في اندلاع الثورة المسلحة. وكانت خطتهما ذكية حيث أقر عزمهما على تشريك هاني الحسن، الأخ الأصغر لخالد الحسن في تفجير الثورة المسلحة. لقد تم اختيارهما على هذا الشاب المتحمس لعدة أسباب فهو أولا أخ خالد الحسن وثانيا موهبته القيادية والتنظيمية حيث نجح في تجميع وتنظيم 68 ألف طالبا وعاملا فلسطينيا مهاجرا في ألمانيا الفدرالية (الغربية أنذاك). قام خليل الوزير بدعوة هاني الحسن إلى مكتب فلسطين في الجزائر وشرحوا له أسباب خلافيهما مع أخيه وقال له عرفات "هاني، إننا في حاجة إلى رفاقك الطلاب، فلنجمع مقاتليك المتطوعين مع فدائيينا". وأجابه الشاب قائلا "موافق، ولكنهم سيذهبون أيضا للقتال في الأردن! أنت تعرف أن تنظيمي يطالب بتحرير الأردن". لكن أبو عمار أجابه بحنكته المعهودة حينما يتعلق الأمر بالتعامل مع الأنظمة العربية "كلا، كلا، أفعل كل ما تشاء، لكنني لا استطيع أن أتصور للحظة واحدة مقاتلة الملك حسين". ونجح خليل الوزير في اليوم الموالي في إقناع هاني الحسن بأطروحة عرفات واهما إياه بقوة "فتح" وقدراتها العسكرية حتى أنه حدثه عن امتلاكها لطائرات هيلوكبتر.
كان انتصار سياسي حقيقي لرفيقي الدرب أبو جهاد وأبو عمار. ورغم أنهما استخدما كثيرا من المناورات وفي بعض الأحيان إيهام الآخرين بحقيقة قوتهم مبالغين فيها عشرات الأضعاف...إلا أنهما نجحا في استعادة المبادرة وتغيير موازين القوى في حركة "فتح" معتمدين في خطواتهم على قوى ثورية أخرى أكثر حيوية واستعدادا للكفاح المسلح. لقد وجدوا ضالتهم لدى الشباب أساسا. من الطلبة الفلسطينيين المنتشرين في جامعات العالم على كافة المعمورة من جهة والذين سيشكلون مستقبلا الكوادر المتعلمة للثورة، وفي شباب المخيمات الذي يعاني من الفقر والحرمان من جهة أخرى وهم من سيشكل القوى الفدائية الضاربة للثورة. هذه هي مصادر الثورة الفلسطينية التي لا تنضب.
الثورة أم الدولة
الثورة ليست كالدولة. فالأولى تحمل مثلا ومبادئ عليا قد توصل معتنقها إلى الموت في سبيلها. أما الثانية فتعتمد على العقلانية والحسابات وموازين القوى. فدولة مصر مثلا بقيادة جمال عبد الناصر كانت كثيرا ما تكون مضطرة للخضوع إلى منطق الدولة وعلاقاتها بالقوى الإقليمية وبالقوى الكبرى، حتى وإن كان زعيمها يتمتع بكاريزما حقيقية ويعتمد في خطابه على أيديولوجيا قومية عربية وتقدمية مؤثرة في الجماهير ..فإنه في نهاية المطاف لا يستطيع العمل كثيرا خارج الأطر التقليدية للدولة. أما الثانية، أي الثورة فهي بطبعها رومانسية حالمة لأنها رفضت أصلا النظام القديم وارتبطت بما يجب أن يكون لا بما هو كائن..فلم يعد يهمها الربح والخسارة بحسابات المنطق المادي الضيق وإنما تتطلع إلى أفق إنسانية أرحب حيث المثل العليا والمبادئ الخالدة. أبو عمار فهم هذه المعادلة. وأدرك حدود ما يمكن أن يقدمه الرئيس المصري في هذه المرحلة رغم احترامه الشديد له. فبحث عن مساعدة ثورة. وكانت الجزائر في استقباله سنة 1962، سنة استقلالها. فرجال جبهة التحرير الوطني كما رجال جيش التحرير الوطني كانوا مستعدون للعطاء بلا حساب. وتجربتهم في حرب التحرير الوطني أصبحت نموذجا عالميا تدرسه الشعوب التي ما زالت تعاني الاستعمار. باختصار، كانت الجزائر سنة 1962 "مكة الثوار"، إليها يتجه كل من يريد الانعتاق من نير الاستعمار والاحتلال.

الجزائر و"فتح"
سبق لأبي عمار الالتقاء مرات كثيرة بقادة الثورة الجزائرية في عواصم ومدن عربية مختلفة حيث نسج علاقات صداقة واحترام متبادل. وفي أحد المرات التقى عرفات بأحمد بن بلا بعد أن أطلق سراحه من السجن الفرنسي وتحادث معه في الشأن الفلسطيني ووعده قائلا "عندما تحصل الجزائر على حريتها واستقلالها، لن تنسى أبدا إخوانها الفلسطينيين المضطهدين". وفي 3 يوليو 1962، اجتمع مناضلون كثيرون من جميع أنحاء العالم في ساحة الاستقلال في الجزائر العاصمة ليحتفلوا بالانتصار..استغل عرفات الفرصة وذكر بن بلا بوعده الذي رد عليه "أخي ياسر لقد وعدناكم وسننجز ما وعدنا به، لنلتق في الأيام القادمة ولنتحادث في ما تريدونه بالضبط من دعم لثورتكم".
وبعد ستة أشهر، أنشأت حركة "فتح" مكتبها في الجزائر تحت اسم مكتب فلسطين وكلف أبو جهاد بإدارته وكان اسمه الحركي علال بن عامر. ورغم تدخل السلطات المصرية لدى الجزائر لغلق المكتب، فإن بن بلا أمر باستمراره. ونجحت "فتح" في تأسيس أول قاعدة دبلوماسية في العالم يمكنها من خلالها إجراء عمليات الاتصال بالدول والحكومات والمنظمات في العالم دون خوف من المخابرات العربية ولا من الأجهزة العسكرية والأمنية للكيان الصهيوني. والأكثر من ذلك، أعطاهم تواجدهم في الجزائر وزنا كبيرا أخذوه من مصداقية الثورة الجزائرية وإشعاعها.

دعم الصين
ففي سنة 1964، تمكنت سفارة الجزائر في بكين من إقناع السلطات الصينية بضرورة استضافة ياسر عرفات وخليل الوزير. وفي الصين، كانت محادثاتهما صعبة مع مضيفيهم الذين ينتمون إلى عقيدة قتالية تعتمد على حرب العصابات حيث قالوا لهما "إن الثورة لا تنجح إلا إذا تبنتها الجماهير. وأنتم ليس لكم أية قواعد في الأراضي المحتلة ومن ثمة فإن معركتكم خاسرة أصلا"..وبعد إلحاح ومناقشات عسيرة وعدهم الصينيون بإمدادهم بالأسلحة ولكن بشرط اندلاع الكفاح المسلح أولا وبوسائلهم الذاتية.
وحينما انشق محمد خيضر الأمين العام السابق لجبهة التحرير الوطني وهرب إلى مدريد انفرد بأموال جبهة التحرير الوطني المودعة في حساب خاص في سويسرا وقال أنه لن يعيدها إلى الجزائر وإنما سيعطيها للثورة الفلسطينية دعما لحربها ضد الاحتلال الصهيوني. لكن بعد اغتياله من قبل المخابرات العسكرية الجزائرية في مدريد بأمر من هواري بومدين، استعادت الجزائر أموالها عن طريق أرملته. 
وفي سنة 1965، أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربي في الإسكندرية، كان الفلسطينيون في استقبال الرئيس احمد بن بلا إلى جانب جمال عبد الناصر حيث هتفت بنات فلسطينيات "بن بلا يا ثائر، فلسطين بعد الجزائر".

مقارنة بين "الجبهة" و"فتح"
وحقيقة يعتبر إنجاز دراسة أو دراسات مقارنة بين نشأة جبهة التحرير الوطني الجزائرية وحركة التحرير الفلسطيني (فتح) مسألة هامة للمؤرخين وعلماء السياسة. فالأولى تشكلت في الجبال وبدأت بالرصاص رافعة شعارا مركزيا قاد كل مراحل الكفاح المسلح وهو: "الحرية لا تعطى وإنما تنتزع" (
La liberté ne se donne pas mais s arrache). كما أن جبهة التحرير الوطني بدأت كفاحها المسلح من داخل الأراضي الجزائرية المحتلة من قبل الاستعمار الفرنسي وليس من خارجه. أما حركة "فتح" فقد بدأت بصحيفة "فلسطيننا"، مركزة في البداية على الدعاية الإعلامية والسياسية. كما أنها بدأت من بلد عربي بعيد جغرافيا عن الأراضي المحتلة وليس من الداخل. إضافة إلى أن اختيار الكفاح المسلح أسلوبا وحيدا وأساسيا في عملية التحرير الوطني لم يتأكد بعد لدى كل النخب التي شكلت الحركة.
نقطة أخرى تستحق المقارنة وهي مدى تسامح الحركتين في قبول التعايش مع حركات وتنظيمات وطنية أخرى تتفق معها على نفس الهدف الكبير أي التحرير والاستقلال. إننا نلاحظ قبولا كبيرا من حركة "فتح" للتعايش والتعاون مع الفصائل الفلسطينية الأخرى وصل بهم إلى حد الالتقاء التنظيمي في مؤسسة أشمل هي منظمة التحرير الفلسطيني. وذلك على عكس جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي ألزمت كل التنظيمات الوطنية السابقة الانضمام إلى الجبهة كأفراد وليس كفصائل أو حل نفسها. ومن لم يقبل هذا الاختيار مثل حركة مصالي الحاج فقد تم إخضاعها بقوة السلاح. 
لكن من المؤكد أن الطبيعة المتمثلة في الجبال الوعرة والغابات الكثيفة قد ساعدت كثيرا الثوار الجزائريين في سرعة اختيارهم للكفاح المسلح وتفجير حرب العصابات الناجحة. في حين أن الفلسطينيين لم تساعدهم الطبيعة والتضاريس، فحربهم لن تكون إلا حرب شوارع وحرب مدن. وهو ما عاشوه طيلة تجاربهم إلى يومنا هذا.
في كل الأحوال، من الممكن القول أن الثورة الفلسطينية الناشئة وجدت في الدولة الجزائرية الفتية مصدرا لا ينضب من الدعم المادي والمعنوي ساعدها على تصليب عودها وعلى التمكن من ربط شبكة علاقات واسعة مع الدول الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي، إلى جانب الصين ومنظومة دول عدم الانحياز.
من يمكنه خلافة أسد الجبارين ياسر عرفات غير مروان البرغوثي؟...

عندما حاصر جنود الاحتلال الصهيوني المنزل الذي يختبئ فيه مروان البرغوثي. وعندما تأكد الرجل من استحالة الإفلات. خاطب الجنود الاسرائيليين بلغة عبرية سليمة كان قد تعلمها في سجونهم "سوف استسلم، لكن لا تتعرضوا لأحد من أفراد العائلة التي كنت مختبئا عندها". ثم أضاف "في كل الأحوال لن تأخذوا مني كلمة واحدة". فهو في هذه اللحظات العصيبة لم يفكر في نفسه وإنما انتبه إلى ضرورة إبعاد الانتقام الإسرائيلي عن مضيفيه. وهذا الموقف تكرر كثيرا في حياة البرغوثي فأصبح أحد سمات شخصيته المتميزة. التضحية بالنفس في سبيل الفلسطينيين الآخرين. وكذلك : القائد يسبق في التضحية جنوده، يسبقهم إلى المعركة، فيكتسب احترامهم وولاءهم وطاعتهم بالعمل الكفاحي وبإعطاء المثال في المبادرة وليس من خلال الهرمية السلطوية والإكراه والأوامر. وقد حاولت إسرائيل منذ وصول شارون إلى السلطة أكثر من مرة اغتياله فلم تتمكن منه ولكنها في المقابل نجحت في اغتيال معاونيه رعد كرمي وعاطف عبيدات كما اغتالت الكثير من أنصاره ومقاتليه. اليوم يقبع في السجن في ظروف مادية ونفسية شديدة الصعوبة. فهو معزول في غرفة صغيرة لوحده ولا يستطيع النوم أكثر من ثلاث ساعات في اليوم. ويعتبر حرمانه من النوم أكبر أنواع التعذيب النفسي التي تسلط على سجين. ورغم كل هذه الظروف الصعبة، فإن معنوياته مرتفعة جدا وذلك حسب ما صرح به محاميه جواد بولس. 

اعتقال واختلاف

اعتقلت إسرائيل إذن مروان البرغوثي قرب رام الله يوم الإثين 15 أبريل 2002. وهي تعتقد أنها ستستطيع بعملها هذا وضع حد لكفاح كتائب شهداء الأقصى بمجرد اعتقال مؤسسها وزعيمها الروحي. لكنها قد تجد نفسها في ورطة حقيقية. فالسجون تقوي من عزيمة الرجال ولاتضعفها. انتبه الإسرائليون إلى هذه الورطة فاختلفت مواقفهم باختلاف مواقعهم. بعضهم يرى في البرغوثي قيادة شابة ممثلة يمكنهم محاورتها لاحقا، والبعض الآخر يطالب بأقصى العقوبات ضده.

موقف أول

تذهب صحيفة إسرائيلية إلى حد القول بأن اعتقال البرغوثي سيريح بعض القيادات الفلسطينية التي كانت محيطة بالرئيس ياسر عرفات والمسماة عادة بالحرس القديم. تقول عكيفا الدار في يومية "هآرتس" في18 أبريل 2002 (ترجمة القدس العربي) وفي مقال تحت عنوان "اعتقال البرغوثي ربما تم لإعداده لقيادة الفلسطينيين في المفاوضات المقبلة" : "..ومن المعقول الافتراض بأن إبعاد البرغوثي عن الساحة لم يذرف الدموع الكثيرة من مكتب عرفات ومحيطه. فالقيادة القديمة (الحرس القديم (
Old Guards، بقيادة أبو مازن، أبو علاء، محمد رشيد، ياسر عبد ربه، صائب عريقات وآخرين المقربين من الصحن، شخصت في البرغوثي وجماعته المقاتلة تهديدا على هيمنتها. وهم مستعدون لدفع ضريبة كلامية بدموع الاحتجاج الصاخب لوسائل الإعلام على اعتقال الزعيم الشعبي من السجن طول الطريق إلى الجناح في الفندق الذي سيستضيف المؤتمر الإقليمي". 
وألمح نفس المقال إلى إمكانية أن تتعامل إسرائيل مع مروان البرغوثي "فقبل ثلاثة أسابيع فقط، قال بنيامين بن اليعازر لوفد من "السلام الآن" أن مروان البرغوثي ينتمي إلى جيل القيادات الفلسطينية الذي سيرث مكان ياسر عرفات. وقال أن هؤلاء أشخاص سيتعين علينا الحديث معهم مع قدوم الوقت. وشرح وزير الدفاع بأن هؤلاء الأشخاص مكثوا لسنوات طويلة في السجون الإسرائيلية وهم يعرفوننا جيدا". ويذكر نفس المقال القارئ الإسرائيلي بأن البرغوثي هو من نشر مقالا في صحيفة واشنطن بوست الأمريكية قائلا "اعترفنا بإسرائيل في 78 في المائة من أراضي فلسطين التاريخية، وإسرائيل هي التي ترفض الاعتراف بحق فلسطينين في الوجود في 22 في المائة المتبقية". 

العلاقة مع الإسرائيايين

صحيح أن مروان البرغوثي يعد بمعايير الثورة والكفاح رجل راديكالي غير مستعد للتسليم بالحقوق المشروعة أو التفريط في الثوابت الوطنية. فهو قد عارض مثلا اتفاقيات أوسلو التى وقعها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين وعلق عليها لاحقا "ماتت اتفاقيات أوسلو باغتيال أحد صانعيها" أي رابين. لكن في المقابل نجد أن الرجل قد نجح في ربط علاقات كثيرة مع اليسار الإسرائيلي وبخاصة مع قيادات في حزب العمل، وحركتي "ميرتس" و"راكاح" اليساريتين. فقد ساعده ماضيه الشيوعي على تكسير الحاجز النفسي عندما يتعلق الأمر بالاتصال باليسار الإسرائيلي...وهو ما يفسر دائما وجود أصوات لدى المثقفين الإسرائيليين اليساريين تنادي بضرورة التعامل مع البرغوثي كقائد محتمل للشعب الفلسطيني يخلف عرفات. فقد هاجم وزير البيئة الإسرائيلي السابق يوسي ساريد زعيم حزب ميرتس عملية اعتقال البرغوثي وطالب بضرورة إطلاق سراحه فورا وإلا فستتضرر إسرائيل كثيرا وستدفع ثمن اعتقاله باهضا.
فالبرغوثي على عكس أغلب القادة الفلسطينيين الآخرين لحركة "فتح" يتمتع بشعبية حقيقية وكبيرة لدى الشارع الفلسطيني. بل أن صوره أصبحت ترفع في المظاهرات والمسيرات التي تجول مدن الضفة الغربية وقطاع غزة منذ اعتقاله. لكن في المقابل نجد اليمين الإسرائيلي بكافة فروعه يكن له حقدا دفينا.

موقف انتقامي

أما البعض الإسرائلي الآخر فيطالب بإنزال أشد العقوبات ضد البرغوثي لجعله عبرة لباقي القادة الفلسطينيين. لقد نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت مقالا متطرفا ضد البرغوثي أمضاه غيء باخور بتاريخ 18 أبريل 2002 (ترجمة القدس العربي) وهو معاكس تماما في محتواه وحدة لهجته لمقال هآرتس، فتحت عنوان "تجب محاكمته ومعاقبته بمنتهى الشدة كظاهرة وكشخص" كتب صاحب المقال "تقديم البرغوثي للمحاكمة سيكون رسالة واضحة للعرب أن إسرائيل هي جوهر وليست نقاشا. إرهابي تجب محاكمته أم سياسي جدير بنوع من الحصانة لذلك يجب إبعاده؟ الجواب على هذه المعضلة التي تواجه قادة الدولة بكل ما يتعلق بالبرغوثي هو جواب بسيط : تجب محاكمته ومعاقبته بمنتهى الشدة، كظاهرة وكشخص". ويضيف صاحب المقال "يعتبر البرغوثي، الذي كان في السابق من نشيطي "فتح"، من قادة الانتفاضة الحالية وافترض أن المجتمع الإسرائيلي سيستسلم بسرعة أمام العنف. لقد قاد ناشطين من أكثر الإرهابيين وحشية وقسوة في العالم : القوة التي تدعي كتائب الأقصى، والمسؤولة عن سلسلة طويلة جدا من العمليات الانتحارية داخل إسرائيل. وفي مقابلات صحفية عديدة وعد الجمهور العربي بأن هذا يحدث تدريجيا وأن إسرائيل تتراجع. هذا لم يحدث، لقد خسر لأن إسرائيل لم تتنازل عن شيئ نتيجة لهذه الانتفاضة. بالعكس، لقد ألمت بالفلسطينيين مأساة جديدة". ويطالب كاتب المقال بضرورة الحكم المؤبد ضد البرغوثي بعد أن يذكرنا بالاتفاقيات السابقة مع الفلسطينيين "في أيلول (سبتمبر 1993)، تعهد ياسر عرفات خطيا باسم منظمة التحرير الفلسطينية بأنه من الآن فصاعدا ستتم تسوية النزاعات بين الطرفين بطرق سلمية وليس بالعنف. هذا المبدأ انتهك بصورة بارزة في الانتفاضة الحالية وتقديم البرغوثي للمحاكمة سينفث فيه الحياة من جديد. إن الحكم عليه بالسجن المؤبد واعتباره كإرهابي يوضح من هو السياسي الذي يجب النقاش معه بشرف ومن هو الذي لا يجب الحوار معه. وإذا لم يتم توضيح هذا المبدأ من جديد فإن إسرائيل ستواجه انتفاضة أخرى في المستقبل".

فلسفة إسرائيلية
ويحاول الكاتب الإسرائيلي تبرير الانتفاضة بوجود صراع داخلي على السلطة عند الفلسطينيين فيقول "في ظل غياب الأدوات الديموقراطية، يتنافس الفلسطينيون فيما بينهم على المواقع القيادية بواسطة قتل اليهود. من يقتل إسرائيليين أكثر يحظى بمكانة أعلى. والانتفاضة الحالية كانت بمثابة دعوة تحد للتنظيم والبرغوثي لقيادة عرفات القديمة عشية اليوم الذي يلي عرفات. إن الحوار الداخلي - الفلسطيني المشوه هذا الذي دفع الإسرائليون ثمنه وقطفت شخصيلت فلسطينية ثماره، يجب أن يتوقف الآن. والطريقة ليست بالتصفيات، التي لا تزال مرفوضة، بل بالمحاكمة. وهكذا يرد في حسبان كل مخطط عمليات ضد إسرائيل التفكير بأن يومه سيأتي وأن العدالة ستقتص منه ومن تاريخه السياسي. ولكن البرغوثي ليس الشعب الفلسطيني وعلى إسرائيل أن تفصل بين طريقه الدامي وبين الشعب الفلسطيني الذي نريد أن نتوصل معه إلى تسوية. في نفس الوقت مع تقديم البرغوثي للمحاكمة على إسرائيل أن تبدأ بمبادرة سياسية حقيقية لأنه يجب أن تطرح أطروحة مضادة لتكتيك الإرهاب الذي يمارسه البرغوثي: العنف. الإرهابي نلتقيه في قاعة المحكمة. والقيادة الفلسطينية السياسية - في قاعة المؤتمرات". 

صراع الداخل والخارج
إن ما يميز مروان البرغوثي عن أغلب القادة الفلسطينيين الآخرين هو كونه زعيم فلسطيني شاب جاء من داخل فلسطين وليس من خارجها مثل أغلب قادة الثورة الفلسطينية. كما يتميز برؤيته المتعددة الأبعاد لعملية كفاح الشعب الفلسطيني التي يجب أن تكون على أكثر من جبهة. فالنضال ضد إسرائيل يندرج عنده في إطار حرب التحرير الوطني، أي الحرب من أجل التحرر من الاستيطان الإسرائيلي وفي سبيل استقلال الشعب الفلسطيني. أما المعركة الثانية التي يجب خوضها بوضوح وبدون مجاملة فهي ضد الفساد المنتشر لدى بعض قادة السلطة الفلسطينية الذين عادوا إلى فلسطين بعد اتفاقيات أوسلو. أو ما يسميهم الفلسطينيون تندرا "جماعة تونس" والمقصود هو بعض قادة "فتح" الذي عاشوا بعيدا عن الجبهة الداخلية و"ناضلوا" نضالا سياسيا انطلاقا من تونس دون أن تكون لهم مشاركة فعلية في الانتفاضة الأولى. وهم عادة قادة مرفهون ماديا ولهم علاقات خارجية كثيرة واعتادوا إبرام الصفقات التجارية وتحقيق الأرباح الشخصية على حساب الثورة الفلسطينية. كان البرغوثي شديد القسوة علىهذه الجماعات فكثيرا ما يوجه إليها الانتقادات العلنية متهما إياها بنقل الفساد إلى فلسطين. حيث لا يمكن بناء دولة عصرية بهذه الجماعات. أكسبته هذه المواقف حب الجماهير وتعاطفها معه. لكن يجب إدراك أن البرغوثي لم يكن في حالة قطيعة مع الرئيس ياسر عرفات، بل على العكس يبدو أن أبا عمار كان يستعمل البرغوثي ورفاقه من القيادات الشابة لإحلال توازن داخل السلطة الفلسطينية حتى لا ينفرد الحرس القديم بالمناصب والقرارات وتميل الكفة إلى صالحه. لذلك يقول كثير من المراقبين أن أبا عمار شجع البرغوثي وأمده بالمال والسلاح. 

الأب والزعيم الشاب
هذه العلاقة
التي كانت قائمة بين الزعيم الأب والزعيم الشاب قد تصل في بعض الأحيان إلى توتر شديد بين الرجلين. فعلى إثر اغتيال جميل الطريفي في رام الله، اندفع البرغوثي متهما الأجهزة الأمنية الفلسطينية بتدبيرها العملية وشن عليها حملة انتقادات واسعة متهما إياها بالانحراف عن مسيرة الثورة ودعا في أحد خطبه الحماسية إلى محاسبة هذه الأجهزة ومحاكمة الضباط المنحرفين فيها. لقد رفع البرغوثي شعار أولوية المناضل السياسي على الضابط العسكري الأمني وضرورة مراقبة الأول للثاني وليس العكس. أما أبو عمار فقد كان يحاول دائما إحداث التوازن داخل حركة "فتح" فقام بعد انتشار الانتفاضة بتشكيل لجنة طوارئ لإدارة الحركة ووضع على رأسها حكم بلعاوي وضمت خصوم البرغوثي. 
فعرفات لا يريد التخلي عنه وفي الآن نفسه لا يمكنه إعطاءه دفة القيادة لكل السفينة. كما أن أبا عمار اعتاد على لعبة التوازنات الداخلية لدى الفلسطينيين والإقليمية مع العرب والدولية بين القوى الكبرى..وحذق هذه السياسة وتميز فيها...ورغم لحظات الغضب التي كانت تنداب عرفات تجاه البرغوثي من حين لآخر، فإن أبا عمار كان يدرك تمام الإدراك أنه لولا نشاط مروان وقدرته على تعبئة الفلسطينيين واكتساب احترامهم كمناضل من حركة "فتح" لاكتسح الإسلاميون الشارع الفلسطيني ولسيطروا على كل المواقع فيزيحون بذلك "فتح" من خارطة الفعالايات الشعبية...فقط البرغوثي ورفاقه أعادوا للحركة مصداقيتها لدى المواطن الفلسطيني من خلال سلوكهم اليومي المتميز بالانضباط الأخلاقي والاقتراب من قضايا المواطنين.

الولادة والنشأة

سنة 1960، وفي قرية كوير شمال غرب مدينة رام الله، ولد مروان البرغوثي في أسرة كبيرة العدد. تميزت أسرته باحتضانها للفكر الشيوعي وانضمام الكثير من أفرادها إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني. وكانت مسألة طبيعية أن يعتنق مروان الفكر الماركسي اللينيني منذ بداية شبابه. غير أن تحولا كبيرا حدث في حياته أثناء تجربة السجن الإسرائيلي الذي دخله وعمره لم يتجاوز 19 سنة. فالشاب اقتنع بضرورة الانضمام إلى حركة "فتح" والانسحاب من الحزب الشيوعي. هل غير مروان قناعاته السياسية والأيديولوجية كلية؟ ولماذا لصالح "فتح" خاصة وأن هذه الحركة هي في الأصل حركة تحرر وطني أكثر منها حزبا يحمل أفكارا في المجتمع والاقتصاد؟ أسئلة كثيرة قد تطرح ولا أحد يمكنه الإجابة عليها إجابة كافية وشاملة غير المعني بالأمر، أي مروان البرغوثي نفسه. لكن من الممكن تصور أن البرغوثي قد فهم أن أفكار الحزب الشيوعي ستصبح، لصعوبتها وتعارضها مع الهوية القومية والدينية للشعب الفلسطينيي، حائلا بينه وبين الجماهير فاختار التنظيم الأكبر والأشمل رغم التناقض الفكري والأيديولوجي للتيارات التي تتعايش فيه. كما أن برنامج حركة "فتح" هو أكثر البرامج الفلسطينية واقعية وإمكانية للتحقيق على الأرض. وبما أن البرغوثي يعتبر نفسه رجل ميدان أكثر منه رجل تنظير.. فقد حدث الانقلاب الكبير الذي سيغير مجرى حياته. ذلك أنه سيصبح منذ سنوات قليلة مضت أكبر رموز وقادة حركة "فتح" المرشحين حتى لخلافة أبي عمار. 

النشاط السياسي والكفاح المسلح

تخرج مروان البرغوثي من جامعة بيرزيت. وكان أحد إطارات حركة "فتح" المشهود لهم بالنشاط والانضباط الخلقي والتنظيمي. 
سجنته إسرائيل لمدة ست سنوات، استغلها في تعلم اللغة العبرية قراءة وكتابة وحديثا. غادر فلسطين نحو الأردن سنة 1987 ليعيش مؤقتا في منفاه الاختياري الجديد. وعمل هناك على دعم حركة "فتح" بالكوادر الشابة وتنظيمها حتى تحين ساعة المقاومة. ولم تلبث السلطات الأردنية أن أعلنت انزعاجها من كثرة نشاطاته وطلبت منه العودة إلى الضفة الغربية لكنه انتقل إلى تونس. لقد انتبه القيادي الفلسطيني الراحل أبو إياد إلى الطاقة التنظيمية الكامنة في الشاب مروان البرغوثي. وسرعان ما أعجب به فتبناه وساعده على الوصول إلى المراتب القيادية في "فتح" ووافق عرفات على صعوده بل تبناه بدوره.
وفي سنة 1988، أصبح البرغوثي عضوا في المجلس الثوري لحركة "فتح" وعاد إلى الضفة سنة 1994 مع بقية القادة الفلسطينيين على إثر اتفاقيات أوسلو ليتم انتخابه أمينا لسر الحركة في الضفة الغربية ثم عضوا في المجلس التشريعي الفلسطيني سنة 1996. لقد نجح البرغوثي في الفوز في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، لكنه في المقابل فشل في الحصول على ما يلزم من أصوات ليشغل منصب الأمين العام لحركة "فتح". 

معرفة الداخل

لقد كان من القادة القليلين الذين يعرفون الداخل الفلسطيني وتركيبة مشهده السياسي والنضالي. فهو تعامل عن قرب مع المناضلين والكوادر المحليين الذين بقوا في فلسطين. كما أدرك طبيعة الاحتلال الإسرائيلي وإمكانياته ومناوراته. أما البقية فكانوا غرباء عن المشهد الداخلي للضفة الغربية وقطاع غزة. بل كثير منهم لم يولد أصلا في فلسطين ولم يرها في حياته إلا سنة 1994. لقد وصفه ضابط إسرائيلي قائلا "البرغوثي ليس بمنظر أيديولوجي. فشرعيته أخذها من معرفته العميقة بالجيل الفلسطيني الذي ولد بعد حرب 1967".
ورغم أن البرغوثي لم يشهد اندلاع الانتفاضة الأولى، فهو قد هيأ نفسه كما هيأ رفاقه للعمل بأقصى نشاط في الانتفاضة الثانية التي اندلعت منذ شهر أيلول (سبتمبر) 2000 على إثر الزيارة الاستفزازية لشارون إلى حرم المسجد الأقصى.
أما أخطر عمل قام به منذ بداية حياته السياسية والنضالية فتمثل قي تأسيسه لكتائب شهداء الأقصى في شهر أكتوبر (تشرين الأول) سنة 2001. وحسب بعض المصادر الإسرائيلية، فإن هذا التنظيم قام مع الفرقة 17 (الحرس الخاص بالرئيس الفلسطيني) بالقيام ب50 بالمائة من العمليات الفدائية.

رفض الصدام مع الفلسطينيين

وعلى عكس قادة الأجهزة الأمنية (جبريل الرجوب، محمد دحلان..)، فإن البرغوثي رفض الدخول في صراع أو صدام مع الحركات الإسلامية الفلسطينية وبخاصة حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" بل على العكس اختار التحالف معهما إلى جانب التحالف مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وتنسيق أعمالهم العسكرية اليومية ضد الكيان الصهيوني وشكلوا معا ما أصبح يعرف بالقوات الإسلامية الشعبية. أصبح البرغوثي من خلال هذه المواقف رجل الوحدة الوطنية حيث يلتف حوله الفلسطينيون باختلاف مشاربهم الأيديولوجية والفكرية والسياسية من اليمين إلى اليسار ومن العلماني إلى الديني.
وهو ما يفسر الحقد الإسرائيلي حول شخصه. فوزارة العدل الإسرائيلية كانت قد طلبت رسميا من ياسر عرفات في شهر أيلول (سبتمبر) سنة 2001، نفي البرغوثي خارج الضفة الغربية. 
لكن في المقابل، نجد جزء من الحكومة الإسرائيلية يعتقد بضرورة إطلاق سراح مروان البرغوثي. ويعنقدون أن اعتقاله سوف يكون الصاعق الذي سيفجر انتفاضة جديدة وثالثة في فلسطين. فصقور كتائب الأقصى لن يسكتوا طويلا على سجن أبيهم الروحي.

 بقلم رياض الصيداوي
 مدير مركز الوطن العربي للابحاث والنشر
ورئيس تحرير التقدمية

هناك تعليق واحد:

  1. ونحن نقدم القروض لجميع المحتاجين في معدل فائدة منخفض جدا 3٪ أي ضمانات تضمن أننا سوف
    أن تكون قادرة على إعطائك أي مبلغ يتراوح بين 2،000- $ $ 5،000،000.00 سعر الفائدة قابل للتداول، مع سداد يسمح 1-40 سنوات اذا كانت مهتمة الاتصال بنا الآن

    رقم الهاتف: + 91-7418483326
    ما سوب: + 91-7418483326
    البريد الإلكتروني: lendingplc@gmail.com

    ردحذف